الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه :
قال القائل:
(ومن المسائل التي اشتهر ذكرها عند ذكر الدعاء لغير الله عند الناس مسألتان مشهورتان، نأتي عليهما بإيجاز:
أما المسألة الأولى: فهي الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وهذه. والاستغاثة هو السؤال والنداء لمخوف نزل، أو إرادة إبعاد مخوف.
ولها جهتان: جهة متفق عليها، وأخرى يحكى فيها النزاع.
أما الأولى فيدخل فيها شيئان:
أولهما: هو أن يستغاث بغير الله كالرسول صلى الله عليه وسلم في إحياء موتى أو نحو ذلك مما هو خصيصة من خصائص الله سبحانه، فهذا كفر وشرك بإجماع المسلمين، لا خلاف بينهم في ذلك، وقد حكى الإجماع في ذلك جماعات ومن أولئك الحافظ ابن حجر يرحمه الله كما في فتح الباري.
وأما الثانية: فهي ما يقع من استغاثة هو نداء لتلبية الابتعاد عن مخوف كمن غرق فاستغاث ونحو ذلك. فهذا إن كان بمن يسمع ويقدر من حي فلا شيء فيه بالإجماع، وقد حكى الإجماع في ذلك جماعات ومن أولئك الحافظ ابن حجر يرحمه الله في فتح الباري، وكذا النووي يرحمه الله في شرحه على مسلم في آخرين.
وأما الجهة الثانية: فهي ما يحكى النزاع فيها، وهي الاستغاثة بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم بعد وفاته.
والمسألة فيها قولان مشهور ذكرهما:
أما القول الأول: فهو جواز ذلك وأنه صحيح.
وهذا هو ما عليه أصحاب المذاهب الأربعة من المتأخرين على المعتمد في مذاهبهم من الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وثمة ثلاث مقدمات لتصحيح ما ذهبوا إليه من تصحيح وتجويز) انتهى كلامه.
قلت: فأين قال الحنابلة بجواز ذلك ؟
والجواب: لم يقل الحنابلة ذلك، وحاشاهم أن يقولوا بهذا القول المخالف لإجماع المسلمين، المصادم لآيات الكتاب العزيز.
وسأتبرع أنا بسوق طرف من كلام الحنابلة ، يدل على عكس ما يزعمه الخرافيون.
1- قال شيخ الإسلام في الاستغاثة في الرد على البكري 1/331
(سؤال الميت و الغائب نبيا كان أو غيره من المحرمات المنكرة باتفاق أئمة المسلمين لم يأمر الله به ولا رسوله ولا فعله أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين، وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين المسلمين أن أحدا منهم ما كان يقول إذا نزلت به ترة أو عرضت له حاجة لميت يا سيدي فلان أنا في حسبك أو اقض حاجتي كما يقول بعض هؤلاء المشركين لمن يدعونهم من الموتى والغائبين، ولا أحد من الصحابة رضي الله عنهم استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته ولا بغيره من الأنبياء لا عند قبورهم ولا إذا بعدوا عنها ، وقد كانوا يقفون تلك المواقف العظام في مقابلة المشركين في القتال و يشتد البأس بهم و يظنون الظنون ومع هذا لم يستغث أحد منهم بنبي ولا غيره من المخلوقين، ولا أقسموا بمخلوق على الله أصل، ولا كانوا يقصدون الدعاء عند قبور الأنبياء ولا قبور غير الأنبياء ولا الصلاة عندها).
2- وقال أيضا- في رده على البكري-
(الثالث: أنه أدرج سؤاله أيضا في الاستغاثة به و هذا صحيح جائز في حياته وقد سوى في ذلك بين محياه و مماته وهنا أصاب في لفظ الاستغاثة لكنه أخطأ في التسوية بين المحيا و الممات وهذا ما علمته ينقل عن أحد من العلماء لكنه موجود في كلام بعض الناس مثل الشيخ يحيى الصرصري ففي شعره قطعة منه و الشيخ محمد بن النعمان كان له كتاب المستغيثين بالنبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة و المنام وهذا الرجل قد نقل منه فيما يغلب على ظني وهؤلاء لهم صلاح و دين لكنهم ليسوا من أهل العلم العالمين بمدارك الأحكام الذين يؤخذ بقولهم في شرائع الإسلام و معرفة الحلال و الحرام و ليس معهم دليل شرعي ولا نقل عن عالم مرضي بل عادة جروا عليها كما جرت عادة كثير من الناس بأنه يستغيث بشيخه في الشدائد و يدعوه).
3- وقال :
(الوجه الثالث: أن يقال مسألتنا ليست محتاجة إلى هذا فإن ما نفي عنه وعن غيره من الأنبياء والمؤمنين وهو أنهم لا يطلب منهم بعد الموت شيئا ولا يطلب منهم في الغيبة شيئا لا بلفظ الاستغاثة ولا الاستعاذة ولا غير ذلك ولا يطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى حكم ثابت بالنص وإجماع علماء الأمة مع دلالة العقل على ذلك فلا يحتاج إلى ذكر حديث فيه نفي ذلك عن نفسه كقوله "إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله تعالى" فإن هذا اللفظ هو بمنزلة أن يقال: لا يستعاذ به ولا غيره من المخلوقين وإنما يستعاذ بالله عز وجل، وهذا كله معلوم وكذلك لفظ الاستجارة وأما طلب ما يقدر عليه في حياته فهذا جائز سواء سمي استغاثة أو استعاذة أو غير ذلك).
4- وقال – في نفس المصدر- :
(وقال: (لا سيما إذا خاض هذا في مسألة لم يسبقه إليها عالم ولا معه فيها نقل عن أحد ولا هي من مسائل النزاع بين العلماء فيختار أحد القولين بل هجم فيها على ما يخالف دين الإسلام المعلوم بالضرورة عن الرسول فإنا بعد معرفة ما جاء به الرسول نعلم بالضرورة انه لم يشرع لأمته أن تدعو أحدا من الأموات لا الأنبياء ولا الصالحين ولا غيرهم لا بلفظ الاستغاثة ولا يغيرها ولا بلفظ الاستعاذة ولا بغيرها كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت ولا لغير ميت ونحو ذلك بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور وأن ذلك من الشرك الذي حرمه الله تعالى ورسوله، لكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين لم يكن تكفيرهم بذلك حتى يتبين لهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم مما يخالفه ، ولهذا ما بينت هذه المسألة قط لمن يعرف أصل الإسلام إلا تفطن وقال : هذا أصل دين الإسلام وكان بعض الأكابر من الشيوخ العارفين من أصحابنا يقول هذا أعظم ما بينته لنا لعلمه بأن هذا أصل الدين).
5- وقال:
(ولا يمكن أحد أن يذكر دليلا شرعيا على أن سؤال الموتى من الأنبياء والصالحين وغيرهم مشروع بل الأدلة الدالة على تحريم ذلك كثيرة حتى إنه إذا قدر أن الله تعالى يكلفهم بأعمال يعملونها بعد الموت لم يلزم من ذلك جواز دعائهم كما لا يجوز دعاء الملائكة و إن كان الله وكلهم بأعمال يعملونها لما في ذلك من الشرك و الذريعة إلى الشرك).
6- وقال في مجموع الفتاوى (1/124)
(فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار مثل أن يسألهم غفران الذنب وهداية القلوب وتفريج الكروب وسد الفاقات فهو كافر بإجماع المسلمين).
7- وفي الفتاوى الكبرى 4/606 وهو في الاختيارات ص 255 في ذكر أمور الردة:
(أو جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم).
8- وقال في مجموع الفتاوى 11/663
(ومن الشرك أن يدعو العبد غير الله كمن يستغيث في المخاوف والأمراض والفاقات بالأموات والغائبين . فيقول : يا سيدي الشيخ فلان لشيخ ميت أو غائب فيستغيث به ويستوصيه ويطلب منه ما يطلب من الله من النصر والعافية ; فإن هذا من الشرك الذي حرمه الله ورسوله باتفاق المسلمين).
9- قال الحجاوي في باب حكم المرتد من كتابه الإقناع 4/285 ط. التركي
(قال الشيخ: أو كان مبغضا لرسوله أو لما جاء به اتفاقا. وقال: أو جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم إجماعا. انتهى. أو سجد لصنم أو شمس أو قمر).
10- قال منصور البهوتي في كشاف القناع:
((قال الشيخ أو كان مبغضا لرسوله أو لما جاء به ) الرسول ( اتفاقا , وقال: أو جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم إجماعا انتهى ) أي كفر لأن ذلك كفعل عابدي الأصنام قائلين : { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى )).
11- وقال ابن مفلح في الفروع 6/165 في باب حكم المرتد:
(قال : أو جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم ( ع ) قال جماعة : أو سجد لشمس أو قمر).
12- وقال المرداوي في الإنصاف 10/327
(فائدة : قال الشيخ تقي الدين رحمه الله : وكذا الحكم لو جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم إجماعا . قال جماعة من الأصحاب : أو سجد لشمس أو قمر).
13- وقال الشيخ مرعي الكرمي في غاية المنتهى 3/355
(أو جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم كفر إجماعا قاله الشيخ).
14- وقال مصطفى الرحيباني في مطالب أولي النهى 6/279
(( أو جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم ) كفر ( إجماعا قاله الشيخ ) تقي الدين , وقال : أو كان مبغضا لرسوله أو لما جاء به كفر اتفاقا ; لأن ذلك كفعل عابدي الأصنام قائلين ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى).
15- وقال منصور البهوتي في حاشيته على المنتهى الموسومة بإرشاد أولي النهى إلى دقائق المنتهى 2/1348
(قال الشيخ تقي الدين: أو كان مبغضا لله أو لرسوله، أو لما جاء به اتفاقا، أو جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم ويسألهم ويدعوهم إجماعا). مع أن متن المنتهى لم ينص على هذه المسألة.
فانظر إلى متأخري الحنابلة كيف يطبقون على نقل هذا الإجماع دون أن يستنوا منه نبيا أو وليا.
16- وقال الحافظ ابن عبد الهادي رحمه الله في الصارم المنكي في الرد على السبكي ص 436
(والصلاة على الجنائز أفضل باتفاق المسلمين من الدعاء للموتى عند قبورهم، وهذا مشروع بل هو فرض على الكفاية متواتر متفق عليه بين المسلمين، ولو جاء إنسان إلى سرير الميت يدعوه من دون الله ويستغيث به، كان هذا شركا محرما بإجماع المسلمين. ولو ندبه وناح لكان أيضا محرما وهو دون الأول. فمن احتج بزيارة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل البقيع وأهل أحد على الزيارة التي يفعلها أهل الشرك وأهل النياحة، فهو أعظم ضلالا ممن يحتج بصلاته على الجنازة على أنه يجوز أن يشرك بالميت ويدعى من دون الله ويندب ويناح عليه كما يفعل ذلك من يستدل بهذا الذي فعله الرسول وهو عبادة لله وطاعة له يثاب عليه الفاعل وينتفع به المدعو له ويرضى به الرب ، على أنه يجوز أن يفعل ما هو شرك بالله وإيذاء للميت وظلم من العبد لنفسه كزيارة المشركين وأهل الجزع الذين لا يخلصون لله الدين، ولا يسلمون لما حكم به سبحانه وتعالى.
فكل زيارة تتضمن فعل ما نهي عنه وترك ما أمر به كالتي تتضمن الجزع وقول الهجر وترك الصبر، أو تتضمن الشرك ودعاء غير الله وترك إخلاص الدين لله فهي منهي عنها، وهذه الثانية أعظم إثما من الأولى).
17- وقال أيضا ص 464:
(وقوله- أي السبكي- إن المبالغة في الإجلال واجبة. أيريد بها المبالغة بحسب ما يراه كل أحد تعظيما حتى الحج إلى قبره والسجود له والطواف به واعتقاد أنه يعلم الغيب وأنه يعطي ويمنع ويملك لمن استغاث به من دون الله الضر والنفع ، وأنه يقضي حوائج السائلين ويفرج كربات النكروبين وأنه يشفع فيمن يشاء ويدخل الجنة من يشاء، فدعوى وجوب المبالغة في هذا التعظيم مبالغة في الشرك وانسلاخ من جملة الدين)
إلى أن قال: (وأما جعل قبره الكريم عيدا تشد المطايا إليه كما تشد إلى البيت العتيق، ويصنع عنده ما يكرهه الله ورسوله ويمقت فاعله، ويتخذ موقفا للدعاء وطلب الحاجات وكشف الكربات، فمن جعل ذلك من دينه فقد كذب عليه، وبدل دينه).
18- وقال ابن الجوزي : (قال ابن عقيل: لما [صعبت] التكاليف على الجهال والطغام عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم، قال: وهم عندي كفار بهذه الأوضاع مثل تعظيم القبور وإكرامها بما نهى عنه الشرع من إيقاد النيران وتقبيلها وتخليقها وخطاب الموتى بالألواح [بالحوائج] وكتب الرقاع فيها يا مولاي افعل بي كذا وكذا ، وأخذ التراب تبركا وإفاضة الطيب على القبور وشد الرحال إليها وإلقاء الخرق على الشجر اقتداء بمن عبد اللات والعزى، ولا تجد في هؤلاء من يحقق مسألة في زكاة فيسأل عن حكم يلزمه، والويل عندهم لمن لم يقبّل مشهد الكف، ولم يتمسح بآجرة مسجد المأمونية يوم الأربعاء...) انتهى من تلبيس إبليس ص 448، وهو عند ابن القيم في إغاثة اللهفان 1/195 وما بين المعقوفتين منه.
19- وقال ابن عقيل أيضا فيما نقله ابن مفلح في الفروع 2/273
(وفي الفنون : لا يخلق القبور بالخلوق , والتزويق والتقبيل لها والطواف بها , والتوسل بهم إلى الله , قال : ولا يكفيهم ذلك حتى يقولوا : بالسر الذي بينك وبين الله . وأي شيء من الله يسمى سرا بينه وبين خلقه ؟ قال : ويكره استعمال النيران والتبخير بالعود , والأبنية الشاهقة الباب , سموا ذلك مشهدا . واستشفوا بالتربة من الأسقام , وكتبوا إلى التربة الرقاع , ودسوها في الأثقاب , فهذا يقول : جمالي قد جربت , وهذا يقول : أرضي قد أجدبت , كأنهم يخاطبون حيا ويدعون إلها)).
20- وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم 1/481
(واعلم أن سؤال الله تعالى دون خلقه هو المتعيّن...) إلى آخر كلام طويل نافع.
21- وقال ابن رجب في تحقيق كلمة الإخلاص ص 21
(فتحقيقه بقول لا إله إلا الله أن لا يأله القلب غير الله حبا ورجاء وخوفا وتوكلا واستعانة وخضوعا وإنابة وطلبا)
ثم قال (وتحقيق هذا المعنى وإيضاحه أن قول العبد لا إله إلا الله يقتضي أن لا إله له غير الله وإلآله هو الذي يطاع فلا يعصى هيبة له وإجلالا ومحبة وخوفا ورجاء وتوكلا عليه وسؤالا منه ودعاء له ولا يصلح ذلك كله إلا لله عز وجل فمن أشرك مخلوقا في شيء من هذه الأمور التي هي من خصائص الآلهيه كان ذلك قدحا في إخلاصه في قول لا إله إلا الله ونقصا في توحيده وكان فيه من عبودية المخلوق بحسب ما فيه من ذلك ).
22- وقال المرداوي في الإنصاف 2/456
(وقال الإمام أحمد وغيره من العلماء : في قوله عليه أفضل الصلاة والسلام " أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق " : الاستعاذة لا تكون بمخلوق)
مع أنه نقل عن أحمد في نفس الصفحة التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء.
وقد أحال الأسمري على هذه الصفحة حين عرض لمسألة التوسل، فهل قرأ ما يتعلق بالاستعاذة ؟ وهل ثمة فرق مؤثر بين الاستغاثة والاستعاذة في هذا الباب؟!
23- وانظر النقل عن أحمد وغيره في أن الاستعاذة لا تكون بمخلوق في:
الفروع 2/160 ، كشاف القناع 2/68 ، مطالب أولي النهى 1/817
تعليق:
هذا كلام فقهاء الحنابلة رحمهم الله ، في منع اتخاذ الوسائط ودعائهم وحكاية الإجماع على ردة من يفعل ذلك ، ومنع الاستعاذة بالمخلوق، ولم يستثنوا من ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، لا بحجة أنه حي، ولا بحجة أنه يسمع، ولا بحجة أنه تعرض عليه الأعمال ويستغفر لأمته...
أبو عبد الله الغامدي
--------------------------------------------------------------------------------