العشق الصوفي
يرمز الصوفية إلى الله عز وجل برمز الأنوثة ويخاطبونه سبحانه وتعالى عما يقولون كما يخاطبون امرأة حسناء ويتغزلون به ويذكرونه بإشارات الحب والغرام والعشق والشوق واللقاء والسكر معها والري والخمر وغير ذلك من المجون والشذوذ ويقولون : نحن نعني بذلك إشارة إلى الذات العلية سبحانه فيصفونه بما لا يرضون لأنفسهم ويدعون أنهم العارفون بالله ، ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى .وإذا كان احدهم لا يقبل أن يصفه أحد تلاميذه بهذه الأوصاف الخليعة ثم هو بعد ذلك يرضاها لله ؟ ساء ما يحكمون .
فهذا محمد سعيد الكردي يقول في قصيدة :
عجبت لفتانة لا تراها النـواظر لها طرف كحيل تراها البـصـائر
فمن لاح عليه من سناها بارق عاش الحياة في حماها يـســـارر
ومن ذاق طعم شـرابها يــوماً حاز الـكمال فلـه الــبشائـر
طوبـى لقـلب خامرته بحبها وأزعجه الطرف الكحيل الساحر
يتحدث عن الله سبحانه لا عن غيره ولاحظ قوله فتانه طرف كحيل من سناها طعم شرابها خامرته بحبها إذا كان الله عز وجل غضب ممن جعل الملائكة إناثاً فكيف بمن يصفه عز وجل بوصف الإناث ؟! قال تعالى " أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الحلية وَهُوَ فِي الخصام غَيْرُ مُبِينٍ " وقال عز وجل "وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بالأنثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ "
والكردي هنا سار على نهج ما تعلمه من رؤوس التصوف مثل ابن عربي وابن الفارض فهذا ابن الفارض الذي هو عندهم سلطان العاشقين يقول:
ففي النشأة الأولى تراءت لآدم بمـظهر حوّا قبـل حكـم النبوةِ
وتظهر للعـشاق فـي كل مظهر من اللبس في أشكال حسنٍ بديعةٍ
ففي مرةٍ لبنى وأخرى بثيـنة وآونـة تـدعى بـعـزة عـزتِ
ولسن سواها لا ولكن غــيرها وما إن لـها في حسنها من شريكـة
فابن الفارض يعني بذلك أن ربه الذي يعبده تجلى أو تجسد بصورة لبنى و بثينة أو عزة وأن العشاق ما عبدوا إلا الله سواءً كان على صورة حواء أو غيرها على مذهبه من الاتحاد. تعالى الله عما يقولون ، ثم هم بعد ذلك يتهمون سلف الأمة بالتجسيم لأنهم أثبتوا لله ما أثبته لنفسه من غير تشبيه ولا تمثيل ولا تكييف ولا تعطيل فمن هم المجسمة إن كنتم تعقلون .
وذكر الصباغ في كتابة درة الأسرار عن قطب الشاذلية أبي العباس المرسي نظمه :
أعندك من ليلى حديثاً محررا بإيراده يحيى الرميم وينشر
فعهدي بها العهد القديم وإنني على كل حال في هواها مقصر
وقد كان منها الطيف منها يزورني ولم يزر ما باله يتعذر
فهل بخلت حتى بطيف خيالها إذا اعتل حتى لا يصح التصور
ومن وجه ليلى طلعت الشمس تستضي وفي الشمس أبصار الورى تتحير
وما احتجبت إلا برفع حجابها ومن عجبي أن الظهور تستر
قلت : هذا قطبهم المرسي يتغزل بليلى وهو يرمز بذلك لله عز وجل وهذا بعدما تهذب بآداب التصوف وطهر قلبه ففاح هذا الطهر على لسانه وكيف لا وهو العارف بالله ولو عرف الله ما وصفه بهذا الوصف سبحانه عما يصفون ألم يقل عز وجل عن ابراهيم عليه السلام " وإذا مرضت فهو يشفين " فنسب المرض لنفسه ونسب الشفاء لله تأدباً مع أن المرض والشفاء من عنده وقال عز وجل عن مؤمني الجن " وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشداً " فلاحظ كيف ذكر الشر بصيغة المبني للمجهول دون أن يقول ربهم ولما ذكر الرشد قال أراد بهم ربهم ففرق بين القولين مع أن الخير والشر من عند الله ولكن ذكر ذلك سبحانه لنا لنتأدب في مقام ذكره ولنعظمه ونجله ونخشاه وقال عز وجل يعلمنا كيف نتأدب عند ذكر النبي عليه الصلاة والسلام فقال تعالى: (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا ) قال القرطبي في تفسيره لهذه الآية يريد: يصيح من بعيد: يا أبا القاسم ! بل عظموه كما قال في الحجرات: " إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله " . وقال سعيد بن جبير ومجاهد: المعنى قولوا يا رسول الله، في رفق ولين، ولا تقولوا يا محمد بتجهم وقال قتادة: أمرهم أن يشرفوه ويفخموه ، وقد حذرنا ربنا عز وجل من رفع الصوت عند النبي عليه الصلاة والسلام فقال " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ " إذا كان هذا في رفع الصوت والجهر بالقول له عليه الصلاة والسلام فكيف بمن يشير إلى الله بوصف الأنوثة والتغزل به وذكر الحب والهجر والوصل والشوق والخمر والسكر والجفن والطرف والكحل و غير ذلك من المجون والوقاحة ثم يدعي بعد ذلك أنه العارف بالله ساء ما يحكمون .
ويقول حبرهم محمد وفا واصفاً الله عز وجل على نفس طريقة ابن الفارض فيقول في شعره:
فكل محب هام فيها وحسنها به قد تحلا حسن كل مليحة
أحاضرها بالغيب في كل حضرة وأناظرها في العين في كل نظرة
يطابق مني كل كون بكونها ففي كل كون كونها في اكنتي
قطفنا بطيب الوصل أطيب عيشة بقرب وجمع واتحاد و وحدة
وهذا الكبريت الأحمر ابن عربي يقول في فصوص الحكم فإذا شاهد الرجل الحق في المرأة كان شهوداً منفعل وإذا شاهده في نفسه من حيث ظهور المرأة عنه شاهده في فاعل وإذا شاهده في نفسه من غير استحضار صورةٍ ما كان شهوداً في منفعل عن الحق بلا واسطة فشهوده للحق في المرأة أتم وأكمل لأنه يشاهد الحق من حيث هو فاعل منفعل ومن نفسه من حيث هو منفعل خاصة فلهذا أحب صلى الله عليه وسلم النساء لكمال شهود الحق فيهن إذ لا يشاهد الحق مجرداً عن المواد أبداً .
قلت : لاحظ كيف ينعق هذا الخبيث بزندقته حيث جعل الحق سبحانه أتم صورة له بأن يظهر بصورة المرأة حيث أنها فاعل ومفعول به وقال إن الله لابدّ أن يظهر في صورة من الصور إذ لا يشاهد مجرداً عن المواد وأما قصده في قوله فلهذا أحب صلى الله عليه وسلم النساء لكمال شهود الحق فيهن يشير إلى حديث الرسول عليه الصلاة السلام " حبب الي من الدنيا النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة " .
وقال أيضا : فمن أحب النساء على هذا الحد فهو حب إلهي وقال القاشاني يشرح عبارة ابن عربي ولما أحب الرجل المرأة طلب الوصلة أي غاية الوصلة التي تكون في المحبة فلم يكن في صورة النشأة العنصرية أعظم وصلة من النكاح ولهذا تعم الشهوة أجزاءه كلها ولذلك أمر بالاغتسال منه فعمت الطهارة كما عم الفناء منها حصول الشهوة فإن الحق غيّور على عبده أن يعتقد أنه يتلذذ بغيره .
ثم يؤكد محمد وفا هذا القول في قصيدته الموسوية فيقول :
أضاجع فيها كل بكر وثيب ولم ألفها فيهن إلا ضجيعتي
ولو دفنت في الترب أتراب تربتي بمتربتي كانت لديهم دفينتي
قلت : قال تبارك وتعالى "سبحان ربك رب العزة عما يصفون " فهذه هي خلاصة التربية التي خلص بها عشاق الصوفية من تزكية النفوس ثم يقولون بعد هذا الصوفية من الصفاء قال عز وجل " لقد جئتم شيئاً إداً " .